خير الله خيرالله
لم تتوقف الحرب الامريكية على ياسر عرفات بعد الخطاب الذي القاه الرئيس بوش الابن في الجمعية العامة للامم المتحدة ودعا فيه الى عزل الرئيس الفلسطيني، جاء دور وزير الخارجية كولن باول الذي وجه قبل أيام دعوة صريحة الى «ابوعمار» من أجل الاستقالة وكأن ازاحة عرفات كافية لإعادة المياه الى العملية السلمية وكفيلة بذلك..
يبدو بالنسبة الى الادارة الامريكية ان العقبة الوحيدة في طريق تسوية النزاع في الشرق الاوسط اسمها ياسر عرفات ولا أحد آخر غير ياسر عرفات.. نسيت الادارة في غاية البساطة هو الاحتلال الاسرائيلي للارض العربية وهو في أساس كل المشاكل.. ونسيت ماهو أهم من ذلك كله وهو أنها ترفض تسمية الاشياء باسمائها اي اعتبار الاحتلال احتلال لا أكثر ولا أقل وان ماهو مطلوب قبل اي شيء آخر الانتهاء من هذا الاحتلال كي يتمكن الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه الوطنية غير القابلة للتصرف وذلك استناداً الى القرارات الصادرة عن الشرعية الدولية التي تدعو امريكا العالم الى احترامها.
ارتكب ياسر عرفات اخطاءً كثيرة بما في ذلك عجزه عن الانتقال من رجل الثورة الى رجل الدولة والمتخلص من عقلية جمهورية الفاكهاني في بيروت وتوَّج هذه الاخطاء بعدم استيعاب معنى قمة كامب ديفيد التي انعقدت صيف العام 2000م التي جمعته مع الرئيس بيل كلينتون ورئيس الوزراء الاسرائيلي وقتذاك ايهود باراك.
أمور كثيرة لم يستطع «ابو عمار» استيعابها أو التصرف بموجبها وقد صبت كل اخطائه على اتجاه القطيعة بينه وبين واشنطن، علماً بأن الرجل عمل كل مايستطيع منذ اطلاق «فتح» الرصاصة الاولىفي 1-1-1965م وحتى توقيع اتفاق اوسلو صيف عام 1993م من أجل اقامة جسر مع الادارة الامريكية.
إنَّ حديث عن اخطاء ياسر عرفات يطول ويطول، ولكن ما لايمكن فهمه هو ذلك الاصرار الامريكي في التركيز عليه وكأنه لب المشكلة ولا مشكلة أخرى في الشرق الاوسط غيره.. نعم، يمكن القول مجدداً ان الرئيس المنتخب للشعب الفلسطيني لم يحسن قيادة السفينة منذ صيف العام 2000م ودفع غالياً ثمن ما ارتكبه من اخطاء، حتي ان دنيس روس رئيس طاقم المفاوضين في عهد الرئيس كلينتون وقبل ذلك في عهد الرئيس بوش الاب ذهب الى حد القول انه لم تكن لدى عرفات سوى كلمة «لا» يرد بها على كل اقتراح قدم له في كامب ديفيد وعندما سُئل روس ألم يقدم عرفات شيئاً في كامب ديفيد اجاب الرجل الذي ادار مفاوضات الشرق الاوسط حتى العام 2000م ان الرئيس الفلسطيني تدخل في النقاش مرة واحدة ليقول ان الهيكل اليهودي الذي يقول الاسرائيليون انه في القدس موجودة آثاره في نابلس.. وهنا يوضح روس انه دعا عرفات الى عدم ترديد هذا الكلام امام الاسرائيليين حتى لايحتلوا نابلس..!
من الظلم تحميل عرفات الذي تخلى عنه معظم العرب المسؤولية الكاملة عما آلت اليه الأوضاع بين الفلسطينيين والاسرائيليين، ذلك ان كل اخطائه لاتساوي شيئاً أمام ما ارتكبه الامريكيون من خطايا في حق الشعب الفلسطيني والمنطقة وذلك بتغاضيهم عن اصرار آرييل شارون على ضم اجزاء من الضفة الغربية الى اسرائيل تعويضاً عن عدم قدرته على تحقيق حلم اسرائيل الكبرى الذي يفترض طرد الفلسطينيين من الضفة الغربية والسيطرة على الارض كلها من منطلق ان الاردن هو «الوطن البديل» لهذا الشعب- اكثر من ذلك- وباعتراف دنيس روس نفسه الذي كان يتحدث قبل أيام أمام «مجلس العلاقات الخارجية» في نيويورك في اطار الترويج لكتابه «السلام الضائع»، ان الجهد الجدي الوحيد الذي بذله الرئيس بوش الابن كان المجيء الى شرم الشيخ والعقبة صيف العام 1993م في محاولة لانهاء العنف بين الفلسطينيين والاسرائيليين.. وبالفعل جمع الرئيس الاسرائيلي شارون ورئيس الوزراء الفلسطيني آنذاك السيد محمود عباس (ابو مازن)..ولكن تبين على حد تعبير روس ان الامريكيين لم يعدوا بشكل جيد لهذا الاجتماع ولم يحددوا ماهي الخطوات العملية التي على الجانبين اتخاذها، بل تركوا هذه الامور لما بعد القمة.. وكانت النتيجة الفشل ثم الفشل ثم الفشل وبقي العنف سيد الموقف!
مرة أخرى من الظلم تحميل «ابو عمار» المسؤولية الكاملة عن تدهور الأوضاع وتوقف العملية السلمية، حتى أنه يمكن القول انه وللمرة الاولى منذ العام 2001م، لم يعد هناك شيء اسمه مفاوضات فلسطينية -اسرائيلية.. هناك هوة بين الجانبين وكأن المطلوب توسيعها والنسف الكامل لكل ماتحقق خلال سنوات طويلة من المفاوضات التي توجت بالتوصل الى حل مايزيد على تسعين في المائة من القضايا العالقة في الاجتماعات التي عقدت في طابا أواخر العام 2000م وللتذكير فقط، ان تلك الاجتماعات جاءت بعد فشل قمة كامب ديفيد، وهذا يعني ان موقف «ابو عمار» خلال تلك القمة التي اعترض منذ البداية على عقدها مطالباً بالتحضير الجيد لها، كان نابعاً من رغبته في التوصل الى نتائج ملموسة والى اتفاقات يمكن تسويقها فلسطينياً وعربياً، خصوصاً ان بعض هذه الاتفاقات يمس القدس التي هي قضية عربية واسلامية ايضاً.
يفترض في الادارة الامريكية، خصوصاً في حال عودة الرئيس بوش الابن الى البيت الابيض اجراء مراجعة في العمق لسياستها الشرق أوسطية، على ان تشمل هذه المراجعة الموقف من ياسر عرفات.. ويمكن ان تنطلق المراجعة من فكرة انه صحيح ان الرجل لايمكن الاستثمار فيه وانه شكل خيبة كبرى لبيل كلينتون لأنه راهن عليه، لكن الصحيح أيضاً انه إذا كان المطلوب التوصل الى تسوية حقيقية لامجال لا همال الرجل وعزله على العكس من ذلك، لابد من ايجاد طريقة للتعاطي معه.. تلك هي على الأقل نصيحة الفرنسيين الذين تبين ان سياستهم الشرق اوسطية أقل كلفة من السياسة الامريكية.. ألم ينصح الفرنسيون منذ البداية في تفادي حرب العراق.. وتبين الآن انهم كانوا على حق في ذلك، وان سياسة المكابرة من أجل المكابرة التي يتبعها الرئيس بوش الابن لن تؤدي إلى نتيجة باستثناء تحويل العراق إلى بؤرة للارهاب والارهابيين؟
في ضوء ماحصل في العراق، من الأفضل للادارة الامريكية اعادة النظر في موقفها من النزاع العربي -الاسرائيلي والفلسطيني- الاسرائيلي تحديداً فالملفت انه منذ أن تخلت واشنطن عن توفير دعم حقيقي لايجاد تسوية معقولة ومقبولة تلبي الحد الأدنى من طموحات الشعب الفلسطيني زاد التطرف في فلسطين، وخفت صوت كل من ينادي بالابتعاد عن الارهاب والممارسات الارهابية.. في المقابل تزداد أوضاع المجتمع الفلسطيني سوءاً على كل المستويات، وبات هذا المجتمع ارضاً خصبة للحركات الدينية المتزمتة بعدما كان معروفاً بتسامحه وبقيمه الحضارية. هل هذا ماتريده امريكا؟ واذا كان هذا ماتريده لماذا تشكو في النهاية من التطرف والمتطرفين أليست هذه النتيجة التي تسعى اليها؟.. أليس هؤلاء الثمرة الحقيقية لسياساتها في الشرق الاوسط..؟