بسم الله الرحمن الرحيم
شرَّف الله أمة الإسلام بخصيصة لم تكن لأحد غيرهم، وهي حفظهم لكتاب ربهم عن ظهر قلب. وكان من أسباب حفظ الله لكتابه أن وفَّق هذه الأمة إلى حفظ قرآنها واستظهاره .
وقد تظاهرت الأدلة من السنة على فضل حفظ القرآن واستظهاره. وكان كثيراً ما يحث أصحابه على حفظ ما ينزل عليه من القرآن، فكان الصحابة يحفظونه بسماعه منه ، فهذه أم هشام رضي الله عنها تروي كيف أنها حفظت سورة { ق } من رسول لله ، فتقول: ( كان تنورنا وتنور رسول الله واحداً سنتين، وما أخذتُ { ق والقرآن المجيد } إلا عن لسان رسول الله ) رواه مسلم .
وكان من حرصه على تعليم صحابته للقرآن وحفظهم له أنه كان يتعاهد كل من يلتحق بدار الإسلام فيدفعه إلى من يعلمه القرآن، فعن عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: " كان رسول الله يُشغَل، فإذا قَدِمَ رجل مهاجر على رسول الله دفعه إلى رجل منا يعلمه القرآن " رواه أحمد .
وقد حفظ القرآن الكريم جَمَعٌ من الصحابة يصعب حصرهم، عُرف منهم الخلفاء الراشدون، وطلحة، وسعد، وابن مسعود، وحذيفة بن اليمان، وأبو موسى الأشعري، وسالم مولى أبي حذيفة، وعبد الله بن عمر، وغيرهم كثير. وفي حديث قتادة قال: قلت لأنس من جَمَع القرآن على عهد رسول الله ، قال: أربعة كلهم من الأنصار: أُبي بن كعب، ومعاذ، وزيد بن ثابت، ورجل من الأنصار، يُكنى أبا زيد. متفق عليه .
ومن الصحابيات اللاتي جمعن القرآن أم ورقة رضي الله عنها، وكان النبي قد أمرها أن تؤمَّ أهل دارها. والحديث في "مسند" أحمد .
وكان من مزيد عناية النبي وأصحابه بالقرآن أن اعنتوا بكتابته وتدوينه، كي يكون ذلك حصناً ثانياً لحمايته من الضياع والتغيير. فبعد أن أمر رسول الله أصحابه بحفظ القرآن في صدورهم طلب منهم حفظه في السطور، ونهى في بداية الأمر عن كتابة شيء غير القرآن حتى لا يلتبس بغيره من الكلام .
ففي "صحيح مسلم" من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، أن رسول الله قال: ( لا تكتبوا عني ومن كتب عني غير القرآن فليمحه ) قال النووي في توجيه ذلك: وكان النهي حين خيف اختلاطه بالقرآن، فلما أمن ذلك أذن في الكتابة. وقال ابن حجر: إن النهي خاص بوقت نزول القرآن خشية التباسه بغيره .
وقد بلغ من عناية النبي بتدوين القرآن أنه كان إذا نزل عليه شيء من القرآن دعا أحد كُتَّابه، وأمره بكتابة ما نزل عليه، ففي الحديث عن زيد رضي الله عنه أن رسول الله أملى عليه { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } (النساء:95) فجاءه ابن أم مكتوم وهو يُمِلُّها عليه. متفق عليه .
وكان صحابة رسول الله يستعملون في كتابة القرآن ما تيسر لهم وما توفر في بيئتهم من أدوات لذلك، فكانوا يستعملون الجلود والعظام والألواح والحجارة ونحوها، كأدوات للكتابة، فعن البراء رضي الله عنه قال: ( لما نزلت: { لا يستوي القاعدون من المؤمنين } قال النبي : ادعُ لي زيداً، وليجئ باللوح والدواة والكتف، ثم قال اكتب ) رواه البخاري. وفي حديث زيد عندما أمره أبو بكر رضي الله عنه بجمع القرآن قال: ( فتتبعتُ القرآن أجمعه من العسب واللحاف والأضلاع والأقتاب ) رواه البخاري. والعسب: جريد النخيل. واللحاف: صفائح الحجارة. والأقتاب: الخشب الذي يوضع على ظهر البعير .
هذه الآثار وغيرها تدلنا على عظيم بلاء الصحابة رضي الله عنهم في كتابة القرآن، وما تحملوه من المشاق لتدوينه والحفاظ عليه. وبقي القرآن مكتوباً على هذه الأشياء محفوظاً عند النبي وأصحابه، ولم يجمع في صحف أو مصاحف في عهده . قال القسطلاني: وقد كان القرآن كله مكتوباً في عهده ، غير مجموع في موضع واحد، ولا مرتب السور، وقُبض رسول الله وحال كتابة القرآن على ما ذكرنا .
ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَجمع النبي القرآن في مصحف واحد كما فعل أبو بكر وعثمان فيما بعد؟ وقد أجاب العلماء أن مرد ذلك كان لاعتبارات عدة منها ما يأتي:
- أنه لم يوجد من دواعي كتابته مجموعاً في مصحف مثل واحد ما وجد على عهد أبي بكر وعثمان رضي الله عنهما .
- أن النبي كان بصدد أن ينزل عليه من الوحي ما قد يكون ناسخاً لبعض آيات القرآن .
- أن القرآن لم ينزل جملة واحدة بل نزَّل مفرقاً، ولم يكن ترتيب الآيات والسور على ترتيب النزول، ولو جُمِعَ القرآن في مصحف واحد وقتئذ لكان عرضة للتغير المصاحف كلها كلما نزلت آية أو سورة .
ومن المسائل التي بحثها العلماء هنا مسألة ترتيب الآيات في السورة، ومسألة ترتيب سور القرآن في المصحف، وحاصل القول في المسألة الأولى، أن الإجماع منعقد على أن ترتيب الآيات في السورة كان بتوقيف من النبي ، وأنه لا مجال للرأي والاجتهاد فيه، ولم يُعلم مخالف لذلك، والنصوص الدالة على ذلك كثيرة سبق أن ذكرنا بعضاً منها، ونضيف هنا حديث ابن الزبير رضي الله عنه قال: ( قلت لعثمان: هذه الآية التي في البقرة { والذين يُتوفون منكم ويذرون أزواجاً وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج } (البقرة:240) قد نسختها الآية الأخرى، فَلِمَ تكتبها، قال: يا ابن أخي، لا أغيِّرُ شيئاً منه في مكانه ) رواه البخاري .
أما ترتيب السور، فالقول الأرجح عند أهل العلم أن النبي فوَّض أمره إلى أمته من بعده، يعني أن هذا الترتيب فعله الصحابة رضي الله عنهم .
وبعد، فهذا جملة القول في مسألة جمع القرآن في عهده ، ومنه يتبيَّن أن القرآن قد دُوِّن في عهده ، وفي ذلك ردٌّ على من زعم أن القرآن لم يدون في عهده . نسأله تعالى أن يجعلنا من الحافظين لكتابه والمحافظين عليه، والقائمين عليه حق القيام آمين .
مع تحياتى
( windows )